سيرة ابن خلدون قراءة ثانية أ.د. عبد الرحيم الکردي

نوع المستند : المقالة الأصلية

المستخلص

ابن خلدون شخصية متوهجة وفي الوقت نفسه محيرة ، شغل الناس في حياته وبعد مماته ، فانقسموا بين معجب به شديد الحب له ، وناقم عليه شديد الکراهية له  ، لکن ابن خلدون رأى نفسه غير ذلک، ولما کانت رؤيته لنفسه أعمق من کل هذه الرؤى فإنه لم يصرح بمعالمها في أسلوب  تقريري ، بل رسم ملامحها في صورة فنية ،في سيرة ذاتية، لأن الفن يمکنه التعبير عن دقائق يعجز التعبير التقريري عنها ،ألف ابن خلدون العديد من الکتب والرسائل والقصائد الشعرية، لکن الذي أذاع شهرته ثلاثة کتب ، أکبرها حجمًا تاريخه الکبير الذي وضع له عنوانًا طويلًا هو : " کتاب العبر وديوان المبتدا والخبر في أيام العرب والعجم والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأکبر،، الکتاب الثاني  هو المقدمة ، أما الکتاب الثالث فهو سيرته الذاتية التي جعلها في بداية  الأمر ذيلًا لکتاب العبر ،ثم جعلها في کتاب مستقل سماه " التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا " واختصره الناس بعد ذلک فأطلقوا عليه  " رحلة ابن خلدون ".  وهذا الکتاب الأخير هو موضوع بحثنا الآن ، وهو نص سردي  رسم فيه ابن خلدون صورة لنفسه ، عن طريق حکاية ما حدث له  منذ ميلاده  حتى شيخوخته ، أي منذ عام 732 هـ حتى عام 807هـ ، وهو العام السابق لوفاته، مستخدمًا قالب الرحلة ، إذ يذکر أن رحلته بدأت من تونس مسقط رأسه إلى المغرب ثم  إلى الأندلس ثم إلى تلمسان ثم إلى المغرب مرة أخرى ثم إلى الأندلس مرة أخرى ثم إلى تونس ثم إلى مصر ومنها إلى الحجاز ثم العودة إلى مصر ثم إلى الشام وأخيرًا إلى مصر،أي أن المساحة المکانية التي دارت فيها أحداث الرحلة تغطي منطقة شاسعة تشمل شمال إفريقيا کله وجزءًا من غرب آسيا بالإضافة إلى شبه جزيرة أيبيريا ، أما المدة الزمانية فتبلغ خمسة وسبعين عامًا، صور ابن خلدون خلال هذه البيئة الزمانية والمکانية ما لقيه في کل بلد من الحفاوة والتکريم أو ما عاناه من الحبس والتنکيل أو المکايد السياسية والمؤامرات والکوارث والمخاطر ، ويذکر في هذا الکتاب من قابله من الملوک والقادة والعلماء وکبار القادة ودهاة الساسة في عصره ، أمثال  السلطان أبي عنان والسلطان أبي سالم في المغرب والسلطان برقوق في مصر وتيمور لنک في دمشق ولسان الدين بن الخطيب في غرناطة ، وصور أيضًا ما دار في هذه البيئات من قيام الدول وانهيارها ،وما شهدته من انقلابات سياسية ومعارک عسکرية واغتيالات وخيانات ، ورصد کثيرًا مما کان ينخر في المجتمع المغربي من فوضى وفرقة وتخلف ، وما کان يدور في المجتمع المصري من رخاء مادي وفساد أخلاقي وإداري ، صنع ابن خلدون من هذا الخليط المکاني والزماني والبشري قصة طريفة وشائقة عن طرق اللغة.


 

الكلمات الرئيسية